الانبساط عند الصوفية
يقول الشبلي : (الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب) ومعنى الانبساط عند الصوفية : أنهم شبهوا الكلام مع الله سبحانه وتعالى، أو الحديث عن الله بمثل ما يقع من الانبساط مع ملك من ملوك الدنيا أو عظيم من عظمائها وبين جليس من جلسائه، والصوفية مشكلتهم أنهم يسمون العبادة خدمة، فتجدهم دائماً يقولون: القيام في خدمته، أي: خدمة الحق. فهم يتصورون خادماً ومخدوماً ووسطاء ووزراء، وشفعاء وخدام، كالحال مع ملوك الدنيا، وهذا من جهلهم بالله سبحانه وتعالى؛ لأنهم لا يقرءون القرآن ولا السنة، وإنما يتلقى بعضهم عن بعض هذه الأوهام وهذه الضلالات.
فكلما سمع أحدهم بيتاً من شعر الغزل أنزله في الله قياساً على محبوبه، وكلما تحدث عن ملك أو عظيم فكأن ربه كذلك. تعالى الله عما يصفون.
إذاً: الانبساط عند الصوفية معناه ما ذكره صاحب منازل السائرين حيث يقول: "ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين: منزلة البسط والتخلي عن القبض، وهي منزلة شريفة لطيفة، وهي عنوان على الحال، وداعية لمحبة الخلق" فقال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين : " (2/354) وقد غلط صاحب المنازل حيث صورها بقوله تعالى حاكياً عن كليمه موسى عليه الصلاة والسلام: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ))[الأعراف:155]" قال: "وكأنه فهم من هذا الخطاب انبساطاً بين موسى وبين الله تعالى حمله على أن قال: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ))[الأعراف:155]" يعني: انبساطه معه.
ثم يقول ابن القيم : "وسمعت بعض الصوفية يقول لآخر وهما في الطواف في قوله تعالى: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ))[الأعراف:155]: إن موسى عليه السلام تدارك هذا الانبساط بالتذلل بقوله: ((أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ))[الأعراف:155]" يعني: لما رأى نفسه انبسط وقال كلمة لا ينبغي أن يقولها وهي قوله: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ))[الأعراف:155] حاول أن يتدارك فرجع وتذلل؛ بقوله: ((أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا))[الأعراف:155].
ثم يقول ابن القيم : "وكل هذا وهم وخلاف المقصود، فالفتنة هاهنا هي: الامتحان والاختبار، وليس فيها أن الله تعالى فتن الناس؛ فأضلهم وأغواهم، فهي كقوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا))[الأنعام:53]".
إذاً: هذا شيء نسبه الله سبحانه وتعالى إلى نفسه، فإذا نسب الله تعالى إلى نفسه شيئاً ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحد من الخلق فنسب إليه ما نسبه لنفسه فهذه النسبة صحيحة وحق، وليست من باب البسط. وأيضاً: "قوله سبحانه وتعالى: (( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ))[الجن:16-17] وقال: : ((وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً))[الأنبياء:35]" يقول: "والمعنى: أن هذه الفتنة اختبار منك لعبادك وامتحان تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء، فأي تعلق لهذا بالانبساط؟ وهل هذا إلا توحيد، وشهود للحكمة، وسؤال للعصمة والمغفرة؟" إلخ.
ثم ذكر تعريف الانبساط عن غير صاحب المنازل، فقال: "الانبساط: -عند الصوفية - هو: إرسال السجية، والتحاشي من وحشة الحشمة" أي: لا يكون هناك احتشام، ومعناه أن ترسل نفسك على سجيتها فيما تنطق به.
ثم قال: "وهو على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الانبساط مع الخلق: وهو ألا تعتزلهم ضناً على نفسك، أو شحاً على حظك، وتسترسل لهم في فضلك، وتسعهم بخلقك، وتدعهم يطئونك" ونقول: لا يجوز للإنسان أن يهين نفسه إلى أن يجعلهم يطئونه.
وقال: "الدرجة الثانية: الانبساط مع الحق. وهو أن لا يحبسك خوف، ولا يحجبك رجاء، ولا يحول بينك وبينه آدم ولا حواء".
فهذا كلامه، على أن فيه مقبولاً ومردوداً؛ ولا معنى لتعلق هذه الصفة بالله تعالى ألبتة.